فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ}
استئنافٌ لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم. وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمرًا لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائنًا مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة {وَأُوْلئِكَ} أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة {هُمُ الفائزون} المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم، وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد، روي أن عليًا قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه: يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام؟ فلما نزلت قال: ما أُراني إلا تاركَ سقايتِنا فقال عليه السلام: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا» وروى النعمانُ بن بشير قال: كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي ألا أعملَ عملًا بعد أن أسقي الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أبالي ألا أعملَ عملًا بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام، وقال آخرُ: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم، فزجرهم عمرُ رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ، والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله، أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ، وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه مع كونه معتبَرًا فيه قطعًا تعويلًا على ظهور الأمرِ وإشعارًا بأن مدارَ إنكارِ التشبيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضًا تقويةً للإنكار وتذكيرًا لأسباب الرجحانِ ومبادئ الأفضلية وإيذانًا بكمال التلازمِ بين الإيمان وما تلاه، ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهرٌ وكذا أعظميةُ درجةِ الفريقِ الثاني، وأما قوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى إلى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقًا ولا الظلمُ عمومًا، والقصرُ في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني، أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

قوله سبحانه: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا في سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلًا له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية والعمارة من المشركين، وقد أنشرنا إلى ماله وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء.
وأنا أقول: إذا أريد من افعل المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول: أن يقال: حذف المفضل عليه إيذانًا بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنًا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقق حقيقة أفعل وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال: فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلًا، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى.
الثاني: أن يقال: ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فإنهمق الوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة: السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به خير من أن في الإيمان والجهاد خيرًا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ، وما قيل: من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر {هُمُ الفائزون} أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم.
والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا: وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرًا فيه قطعًا تعويلًا على ظهور الأمر وإشعارًا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضًا تقوية للإنكار وتذكيرًا لأسباب الرجحان ومبادئ الأفضلية وإيذانًا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه.
ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر.
والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقًا، والقصر في قوله سبحانه: {أولئك هُمُ الفائزون} بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق إدعاء كما مر. اهـ.
وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}
هذه الجملة مبيّنة لنفي الاستواء الذي في جملة {لا يستون عند الله} [التوبة: 19] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله: {كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} [التوبة: 19] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.
و(الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة.
والمهاجَرة: ترك الموطن والحلولُ ببلد آخر، وهي مشتقّة من الهجر وهو الترك، واشتقّت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها في عرف الشرع هجرة خاصّة: وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشمل هجرةَ مَن هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نية الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.
والمفضل عليه محذوف لظهوره: أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم.
والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} في سورة البقرة (228).
وقوله: {لهم درجات عند ربّهم} في أوائل الأنفال (4).
وهي في كلّ ذلك مستعارة لرفع المقدار.
و{عند الله} إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأنّ أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.
وجملة {وأولئك هم الفائزون} معطوفة على {أعظم درجة} أي: أعظم وهم أصحاب الفوز.
وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادّعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتّى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يُعَدّ كالمعدوم.
والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزّتهم: وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
وفي سورة الأنفال تصنيف آخر في قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال كان تصنيف المؤمنين بعد الهجرة مباشرة، وانتهت الهجرة؛ وأصبح الجميع سواء، فجاء التصنيف الجامع في آية التوبة.
لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى أن هذه الأعمال لم تكن مقبولة من المشركين، أما إن قام بها المؤمنون فلهم درجة عند الله. وفي هذه الآية الكريمة يصفهم الحق بأنهم {أَعْظَمُ دَرَجَةً}، {أَعْظَمُ} صيغة أفعل التفضيل، وهي تعطي قدرًا زائدًا عن الأصل المعترف به، فيقال: فلان أعلم من فلان. وبهذا يكون الشخص الثاني عالما، ولكن الشخص الأول أعلم منه. ويقال: فلان أكرم من فلان، أي أن الموصوف الثاني كريم، والموصوف الأول أكرم منه. والله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لنا الفوز عنده، فقال: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20].
فهؤلاء هم الذين يحصلون على أكبر الأجر عند الله تعالى، وهم المؤمنون المهاجرون، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والفوز حكم يؤدي إلى أن تأخذ ما تحبه نفسك. فقال الحق موضحًا ما يفوزون به: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20].
وما دام هؤلاء هم الفائزون، فالفوز إنما يكون في مضمارين اثنين. فالذين يصنعون أمورا خاصة بالدنيا قد يفوزون فيها بدرجة من النعيم، ولكن نعيمهم على قدر إمكاناتهم؛ وهو نعيم غير دائم؛ لأنه إما أن يزول عنهم بذهاب النعمة، وإما أن يزولوا هم عنه بالموت، إذن فهو نعيم ناقص.
أما الذي يؤمن ويهاجر ويجاهد ويعمل لآخرته، فسوف يفوز بنعيم لا على قدر إمكاناته، ولكن على قدر إمكانات الله، ولا مقارنة بين إمكانات الله وإمكانات خلقه. وفوق ذلك فهو نعيم دائم لا يتركك فيزول عنك، ولا تتركه لأنك في الجنة خالد لا تموت. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
{آمَنُوا} أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبقَ في سماءِ يقينهم سحابُ رَيْبٍ، ولا في هواءِ معارفهم ضبابُ شك.
{وَهَاجَرُوا}: فلم يُعَرِّجُوا في أوطان التفرقة؛ فَتَمَحَّضَتْ حركاتُهم وسكناتهم بالله لله.
{وَجَاهَدُوا}: لا على ملاحظة غَرَض أو مطالعة عِوَضٍ؛ فلم يَدَّخِرُوا لأنفسِهم- مِنْ ميسورهم- شيئًا إلا آثروا الحقَّ عليه؛ فَظَفِروا بالنعمة؛ في قيامهم بالحقِّ بعد فنائهم عن الخَلْق. اهـ.